دراسات إسلامية

 

طرق الاستدلال عند الإمام الشافعي

(2/2)

بقلم:  ظفر دارك القاسمي (*)

 

 

الطور الرابع: التنقيح الثاني للمذهب 676- 1004هـ:

     وبدأ بوفاة النووي مرورا بشيخ الإسلام عندنا -عند الشافعية - الشيخ زكريا الأنصاري وينتهي بوفاة الإمام شمس الدين الرملي سنة 1004هـ، جاء علماء الشافعية فراجعوا كتب الرافعي والنووي ونظروا فيها فقدمها الجمهور منهم على سائر الكتب الأخري وتنالوها بالمدارسة وخدموها بالمصنفات شرحاً واختصارًا.

جهود الإمام ابن حجر الهيثمي في تنقيح المذهب:

     برع ابن حجر في علوم الشريعة عامةً وفي فقه الشافعية منها خاصةً، حتى أصبح المرجع الأول للشافعية في بلاد الحجاز واليمن وغيرهما، من مصنفاته: «تحفة المحتاج في شرح المنهاج» ويعتبر أهم كتبه في الفقه، و«المنهاج القويم شرح المقدمة الحضرمية» في الفقه الشافعي (المسماة بمسائل التعليم)، وله فتاوي الهيثمي (الفتاوي المكية)، وتوفي - رحمه الله - في مكة سنة 974هـ.

جهود الإمام شمس الدين الرملي في تنقيح المذهب:

     وهو المشهور بالشافعي الصغير فقيه الديار المصرية في عصره ومرجعها في الفتوى بلا منازع.

     من مصنفاته: «نهاية المحتاج في شرح المنهاج». ويعتبر أهم كتبه، و«كتاب غاية البيان في شرح زيد ابن رسلان»، وتوفي - رحمه الله- في القاهرة سنة 1004هـ.

     اختلف المتأخرون في أيهما المعتمد: شرح ابن حجر أو الرملي على المنهاج؟ فذهب علماء مصر إلى اعتماد ما قاله الشيخ محمد الرملي في كتبه، خصوصًا في «نهايته»، حتى اشتهر عنهم أنهم أخذت عليهم العهود أن لا يقولوا إلا بقول الرملي! والسبب في اعتمادها تحري مؤلفها في النقل، وأنها قرئت عليه إلى آخرها من أربع مئة من العلماء، فنقدوها وصححوها، فبلغ صحتها إلى حد التواتر.

     هذا: وقد تابع الرملي في أكثر ما يخالف فيه ابن حجر والده الشهاب الرملي. وذهب علماء حضرموت والشام والأكراد وداغستان وأكثر اليمن والحجاز إلى أن المعتمد ما قاله ابن حجر في كتبه؛ قال في الفوائد المدنية: وإنما قيدت بأكثر أهل اليمن؛ لأني وجدت في كلام بعضهم ترجيح مقالة الرملي في مواضع كثيرة. بيد أنه يمكن أن يقال بأن هذا ترجيح بسبب قوة المدرك، وهذا ما فعله بعض اليمنيين، بل استنكر بعضهم هذا القول من أن أهل اليمن يعتمدون قول الرملي.

     وقال في الفوائد أيضًا: وأما أهل الحرمين فكان في الأزمنة السابقة القول عندهم ما قاله ابن حجر، ثم صار السادة المصريون يردون إلى الحرمين في مجاوراتهم بهما، ويقررون لهم في دروسهم معتمد الجمال الرملي إلى أن فشا قوله فيهم حتى صار من له إحاطة بقول الجمال الرملي وابن حجر من أهل الحرمين يقرر قولهما من غير ترجيح بينهما.

     وقد سبق أن ذكرنا أن كتب النووي قد تتعارض، وأنه رغم الترتيب السابق الذكر لهذه الكتب إلا أنه لا يصح الاعتماد على ذلك الترتيب في حكاية المذهب؛ بل المرجع إلى كلام معتمدي المتأخرين من أمثال الشارحين، ولكن تنشأ مشكلة أخرى هي المشكلة التي واجهتنا مع كتب النووي، ويقال فيها ما يقال هنا، وهي أن كتب ابن حجر تتعارض كذلك، قال المتأخرون: إن اختلفت كتب «حج» فعلى الترتيب الآتي:

     أولاً: التحفة، وقد اعتمدها المتأخرون ممن سبق ذكرهم لجملة أسباب هي:

     1. ما فيها من إحاطة بنصوص الإمام.

     2. تشبع المؤلف فيها.

     3. قراءة المحققين لها الذين لا يحصون كثرةً.

     4. معرفته بالمدرك.

     5. اعتماده ما عليه الشيخان.

     بيد أن مما يؤخذ على التحفة ما ذكره الكردي في الفوائد المدنية حيث قال: «رأيت في كتاب الصلاة من فتاوى السيد عمر البصري ما نصه: الشيخ ابن حجر بالغ في اختصار هذا الكتاب -يعني التحفة- إيثارًا للحرص على إفادة الطلبة بجميع الشوارد وتكثير الفوائد والفرائد، إلا أنه بلغ من الاختصار إلى حالة بحيث لا يمكن الخروج عن عهدة مطالعته إلا بعد تقدم الإحاطة بمنقول المتقدمين ومناقشات المتأخرين».

     وقارن بعضهم بين الشرحين، فقال: الشيخ ابن حجر: كثيرًا ما يرتبك في عبارته في الأبحاث التي تختلف فيها أنظار من قبله لقوة نظره، وتجد عبارة النهاية غالبًا - كالإمداد وفتح الجواد - رشيقة سهلة قريبة التناول.

     ثانيًا: فتح الجواد.

     ثالثًا: الإمداد.

     رابعًا: شرح العباب المسمى بالإيعاب.

     خامسًا: فتاواه.

الفتوى في المذهب:

     اختلف مَن جاء بعد الهيثمي والرملي فيمن يعتمد قوله؛ هل يقتصر الأمر على الشيخين؛ الهيثمي والرملي، أم يتعداهما إلى غيرهما؟

     فذهب البعض إلى عدم جواز الفتوى بما يخالف ابن حجر والرملي؛ بل بما يخالف التحفة والنهاية، قال في الفوائد المدنية: صار شيخنا المرحوم الشيخ سعيد سنبل المكي ومَن نحا نحوه يقررون أنه لا يجوز للمفتي أن يفتي بما يخالفهما؛ بل بما يخالف «التحفة» و«النهاية» وإن وافق بقية كتبهما، وفي ظني أني سمعته يقول: إن بعض الأئمة من الزمازمة تتبع كلام التحفة والنهاية فوجد ما فيهما عمدة مذهب الشافعي وزبدته. وفي المسائل التي لم يتعرضا لها يفتى بكلام غيرهما على الترتيب التالي:

     1. كلام شيخ الإسلام زكريا.

     2. ثم بكلام الخطيب.

     3. ثم بكلام حاشية الزيادي.

     4. ثم بكلام حاشية ابن قاسم.

     5. ثم بكلام عميرة.

     6. ثم بكلام الشبراملسي.

     7. ثم بكلام حاشية الحلبي.

     8. ثم بكلام حاشية الشوبري.

     9. ثم بكلام حاشية العناني.

     هذا ما لم يخالفوا أصل المذهب، كقول بعضهم: لو نقلت صخرة من أرض عرفات إلى غيرها صح الوقوف عليها.

     وجاء في فتاوى الشيخ أحمد الدمياطي ما نصه: فإن قلت: ما الذي يفتي به من الكتب وما المقدم منها، ومن الشراح والحواشي ككتب ابن حجر والرمليين وشيخ الإسلام والخطيب وابن قاسم والمحلي والزيادي والشبراملسي وابن زياد اليمني وغيرهم، فهل كتبهم معتمدة أو لا؟ وهل يجوز الأخذ بقول كل من المذكورين إذا اختلفوا أو لا؟ وإذا اختلفت كتب ابن حجر فما الذي يقدم منها؟

     الجواب - كما يؤخذ من أجوبة العلامة الشيخ سعيد بن محمد سنبل المكي، والعمدة عليه-:

     كل هذه الكتب معتمدة ومعول عليها؛ لكن مع مراعاة تقديم بعضها على بعض، والأخذ في العمل للنفس يجوز بالكل، وأما الإفتاء فيقدم منها عند الاختلاف التحفةُ والنهاية، فإن اختلفا فيخير المفتي بينهما إن لم يكن أهلاً للترجيح، فإن كان أهلاً له فيفتي بالراجح، ثم بعد ذلك شيخ الإسلام في شرحه الصغير على البهجة، ثم شرح المنهج له، لكن فيه مسائل ضعاف.

     فإن اختلفت كتب ابن حجر مع بعضها؛ فالمقدم أولاً التحفة، ثم فتح الجواد، ثم الإمداد، ثم الفتاوى وشرح العباب سواء؛ لكن يقدم عليهما شرح بافضل. وحواشي المتأخرين غالبًا موافقة للرملي فالفتوى بها معتبرة، فإن خالفت التحفة والنهاية؛ فلا يعول عليها.

     وأعمد أهل الحواشي: الزيادي، ثم ابن قاسم، ثم عميرة، ثم بقيتهم؛ لكن لا يؤخذ بما خالفوا فيه أصول المذهب؛ كقول بعضهم: ولو نقلت صخرة من أرض عرفات إلى غيرها صح الوقوف عليها وليس كما قال. هذا ما قرره العلماء المتقدمون.

     وقال المتأخرون: والذي يتعين اعتماده أن هؤلاء الأئمة المذكورين من أرباب الشروح والحواشي، كلهم إمام في المذهب يستمد بعضهم من بعض، فيجوز العمل والإفتاء والقضاء بقول كل منهم وإن خالف مَن سواه، ما لم يكن سهوًا أو غلطًا أو ضعيفًا ظاهر الضعف.

     قال السيد عمرالبصري في فتاواه: والحاصل أن ما تقرر من التخيير لا محيد عنه في عصرنا هذا بالنسبة إلى أمثالنا القاصرين عن رتبة الترجيح؛ لأنا إذا بحثنا عن الأعلم بين الحيين لعسر علينا الوقوف، فكيف بين الميتين؟! فهذا هو الأحوط الأورع الذي درج عليه السلف الصالحون المشهود لهم بأنهم خير القرون.

     وفي «المسلك العدل حاشية شرح بافضل»: ورفع للعلامة السيد عمر البصري سؤال من الأحساء فيما يختلف فيه ابن حجر والجمال الرملي، فما المعول عليه من الترجيحين؟

     فأجاب: إن كان المفتي من أهل الترجيح أفتى بما ترجح عنده، قال: وإن لم يكن كذلك -كما هو الغالب في هذه الأعصار المتأخرة- فهو راوٍ لا غير، فيتخير في رواية أيهما شاء أو جميعًا أو بأيها من ترجيحات أجلاء المتأخرين.

     واعلم أن صاحب النهاية في الربع الأول من النهاية يماشي الشيخ الخطيب الشربيني، ويوشح من التحفة ومن فوائد والده؛ ولهذا فأكثر مخالفات «مر» لـ«حج» بسبب متابعته لوالده الشهاب الرملي. ولذا تجد توافق عبارات المغني والنهاية والتحفة، وليس ذلك من باب وضع الحافر على الحافر كما قد يُتَوهم، وفي الثلاثة الأرباع يماشي التحفة ويوشح من غيرها.

     وأما شرح الخطيب على المنهاج المسمى بـ(مغني المحتاج) فهو مجموع من شروح المنهاج مع توشيحه من فوائد من تصانيف شيخ الإسلام زكريا، ويستمد كثيرًا من كلام شيخه الشهاب الرملي ومن شرح ابن شهبة الكبير على المنهاج.

     قال في الفوائد المدنية: والخطيب الشربيني لا يكاد يخرج عن كلام شيخه شيخ الإسلام والشهاب الرملي؛ لكن موافقته للشهاب أكثر من موافقته لشيخ الإسلام، وقال: وقد رزق الخطيب -رحمه الله تعالى- في كتبه الحلاوة في التعبير وإيضاح العبارة كما هو مشاهد محسوس في كلامه في كتبه.

     والخطيب متقدم على ابن حجر فهو في مرتبة مشايخه؛ لأنه أقدم منه طبقة، والإمام ابن حجر يستمد كثيرًا في التحفة من حاشية شيخه ابن عبد الحق على شرح المنهج للجلال المحلي، وقد شرع «حج» في شرحه ثاني عشر محرم سنة ثمانٍ وخمسين وتسع مئة، ونقل عنه أنه فرغ من تسويد التحفة عشية خميس ليلة السابع والعشرين من ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وتسع مئة.

     وقال الخطيب الشربيني: إنه شرع في شرح المنهاج عام تسع مئة وتسعة وخمسين، ونقل عنه أنه فرغ منه سابع عشر جمادى الآخرة عام ثلاثة وستين وتسع مئة. وقال الجمال الرملي: إنه شرع في شرح المنهاج في شهر ذي القعدة سنة ثلاث وستين وتسع مئة، ونقل عنه أنه فرغ منه ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين وتسع مئة.

     وعُلِم من ذلك أن تأليف النهاية متأخر عن تأليف «التحفة» و«المغني» كما نص عليه «عش»، وأن تأليف «المغني» متأخر عن تأليف «التحفة»، وعُلِم أيضًا أن فترة تصنيف التحفة كانت أقل الفترات إذ كتبت فيما يزيد على عشرة أشهر، ويليها «المغني» إذ استمر تأليفه أزيد من أربع سنوات، ثم النهاية والتي كانت فترة تأليفها طويلة وصلت إلى حوالي عشر سنوات.

ومن هنا ندرك أمرين:

     الأول: سبب اعتماد المصريين على النهاية أنها ألفت في فترة طويلة مكنت مؤلفها من التأني والتروي في التأليف ومراجعة ما يكتب إذ دام هذا عشر سنوات، في حين نجد أن التحفة لم تأخذ من مؤلفها سوى عشرة أشهر.

     الثاني: نعلم سببًا آخر من أسباب تعقيد ألفاظ «التحفة»؛ إذ كتبها «حج» بسيلان ذهنه الفقهي، دون مراعاة كبيرة لمن بعده، إضافة إلى وقوعه في بعض الأوهام والأخطاء، واعتماده لبعض المسائل التي حقها التضعيف، سواءً مما في المنهاج أم خارجه، كما نبه على بعضها الكردي في الفوائد، إضافة إلى أنه بسبب سرعة التصنيف يبدو أنه لم يراجعه مراجعة دقيقة - وإن ذكروا قراءة المحققين عليه- ومراجعة حواشي التحفة تظهر ذلك بجلاء؛ مما أربك القراء بمن فيهم أصحاب الحواشي في مواضعَ التبس فيها عود الضمائر، ومعنى بعض الجمل التي اختل التركيب فيها نوعًا ما، ومع هذا كله يبقى «للتحفة» قيمتها وقدرها.

معالم الطور الرابع:

     أبرز معالمها الابتعاد الواضح في التصنيف الفقهي عند الشافعية عن طريقة الإمام الشافعي ومنهجه في مصنفاته الفقهية، التي تجلت فيها شخصيته الاجتهادية الكبيرة، خلال تناوله للمسائل الفقهية والأحكام حيث نجده يُفسر آيات القرآن ويشرح الأحاديث والآثار مستنبطا من كل ذلك حكم الله مع مناقشته مسائل وقواعد أصول الفقه إن اقتضى الأمر بالاضافة إلى محاورته الهادئة لآراء المخالفين له في اجتهاده من فقهاء التابعين والأئمة المجتهدين بمنهجية محكمة، تبني عند طالب العلم الملكة الفقهية وتربيه على الاجتهاد المنضبط.

     أما المصنفات الفقهية الشافعية في تلك الفترة فقد تأثرت بالعصيبة المذهبية التي تعصف بالحياة العلمية بالإضافة إلى قلة عرض لأدلة الأحكام الفقهية وذلك على وجه العموم.

الطور الخامس: خدمة المصنفات وظهور الدراسات الفقهية 1004- إلى الأن:

     ويعتبر هذا الطور بحق هو العصر الذهبي لتصنيف الحواشي على كتب المذهب، ومن هذه الحواشي الفقهية المطبوعة والمنتشرة:

     حاشية «القليوبي» و«عميرة» على «كنز الراغبين» للجلال المحلي شرح «منهاج الطالبين».

     حاشية الشبراملسي على «نهاية المحتاج» شرح «منهاج الطالبين».

     حاشية الجمل على «تحفة منهج الطلاب» لزكريا الأنصاري اختصار «منهاج الطالبين».

     إعانة الطالبين «لشطا الدمياطي» على حل ألفاظ فتح المعين بشرح قرة العين بمهمات الدين «لزين الدين المليباري».

     ترشيح المستفيدين لعلوي بن أحمد السقاف المكي (ت 1335هـ)، على فتح المعين بشرح قرة العين بمهمات الدين، لزين الدين المليباري.

     أما السبب في كثرة التصنيف على طريقة الحواشي في هذا الطور فيعود إلى أمور أهمها: يأتي في مقدمتها وفرة المصنفات الشافعية المتقنة وما عليها من شروح، والتي صنفها كبار علماء المذهب خلال الطورين: الثالث والرابع، لذا أدرك علماء الشافعية في هذا الطور جهود علماء المذهب السابقين وخدمتهم له والتي تجلت في تلك المصنفات، بالإضافة إلى انحسار ظاهرة الاجتهاد وشيوع العصبية المذهبية، وضعف الحياة العلمية خلال العهد العثماني بوجه عام، وصيرورة المذهب الحنفي مذهبا رسميا للدولة العثمانية. فكان لهذه الظروف أن اقتصر علماء الشافعية على خدمة المصنفات وعمل الحواشي لها. ثم صار مذهب الشافعية أكثر المذاهب اهتماماً وتأليفاً في القواعد الفقهية.

مواطن انتشار المذهب الشافعي:

     سبق أن ذكرنا أن الشافعي نشر مذهبه بنفسه، فهو برحلاته و تنقلاته بين الحجاز و العراق و مصر، نشر آراءه و فقهه في هذه الأقطار، و قام تلاميذه، من بعده بنشر مذهبه في بلاد أخرى، و تعرض هذا المذهب عبر التاريخ كما تعرض غيره من المذاهب للمد و الجزر في العالم الإسلامي، و هو الآن يسود في مصر، و إندونيسيا و ماليزيا، و جنوب شرق آسيا بوجه عام، كما أن له في اليمن وجودا يكاد يضارع وجود المذهب الزيدي، و له وجود أيضا في العراق و الشام، و بعض أقطار الجزيرة العربية كعمان؛ و لكن ليس له وجود يذكر في المغرب العربي.

وصنفت كتب مستقلة بذلك على المذهب الشافعي، منها:

     1- الفروق، لوالد إمام الحرمين، أبي محمد الجويني، عبد الله بن يوسف بن محمد ابن حيوية (438هـ)، أظهر الفرق بين المسائل بتعمق، ورتبه على أبواب الفقه، ووضع كل مجموعة من المسائل بعنوان تندرج تحته.

     2- قواعد في فروع الشافعية، للجاجرمي، معين الدين، أبي حامد محمد بن إبراهيم الشافعي (المتوفى سنة 613هـ) وقد أكثر الناس من الاشتغال بها في عصره، كما يقول العلامة ملاجلبي.

     3- قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعز بن عبد السلام أبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي (660هـ). وتسمى القواعد الكبرى في فروع الشافعية، وله القواعد الصغرى، وكان من تلامذته القرافي المالكي صاحب (الفروق)، واعتبر العز أن الأحكام كلها ترجع إلى قاعدة واحدة، وهي «جلب المصالح ودرء المفاسد» أو إلى «درء المفاسد» فقط.

     4- الأشباه والنظائر، لابن الوكيل، صدر الدين محمد بن عمر بن الوكيل الشافعي (المتوفى سنة 716هـ) جمع فيه قواعد المذاهب الشافعي، وذكر معظم مسائله من كتاب (فتح العزيز) للرافعي (ت623هـ) شيخ الشافعية، ومحقق المذهب مع النَّووي؛ لكن الكتاب غير مرتب؛ لأن مؤلفه مات قبل أن ينقحه، ويحتوي على قواعد فقهية وأصولية وضوابط فقهية، ثم جاء ابن أخيه زين الدين بن المُرَحِّل (738هـ) فنقحه، وتبعه العلماء في تنقيحه.

     5- المجموع المُذْهَبُ في قواعد المذهب الشافعي، للعلائي، صلاح الدين بن خليل كَيْكَلدي العلائي الشافعي الحافظ الدمشقي (المتوفى سنة 761هـ)، وقال عنه ملاجلبي: «وهي أجود القواعد، اختصرها الشيخ محمد بن عبد الله الصرخدي (المتوفى سنة 792هـ)، و فيه أحاديث كثيرة وقواعد أصولية عديدة أيضاً.

     6- الأشباه والنظائر، لابن السبكي، تاج الدين، عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي (المتوفى سنة 771 هـ) وهو الكتاب المشهور الذي اعتمد عليه السيوطي في (الأشباه والنظائر)، وأراد ابن نجيم أن يحاكيه بوضع كتاب مثله في المذهب الحنفي، وهو من أحسن الكتب لما يمتاز به مؤلفه من دقة وإحاطة بالفقه والأصول وغيرهما، مع حسن الترتيب.

     7- الأشباه والنظائر، للإسنوي، جمال الدين عبد الرحيم بن حسن الإسنوي الشافعي (المتوفى سنة 772هـ) ولكن ابن السبكي يقول عنه: «فيه أوهام كثيرة، لأنه مات عن مسودة».

     8- القواعد في الفقه، أو المنثور في القواعد، للزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله، (المتوفى سنة 794هـ) وهو كتاب فريد في منهجه، عميق في أسلوبه، رتبه على حروف المعجم، وشرحه سراج الدين العبادي في مجلدين، واختصر الأصل الشيخ عبد الوهاب الشعراني (المتوفى سنة 973هـ) في مجلد.

     9- القواعد، للغزي، شرف الدين علي بن عثمان الغزي (المتوفى سنة 799هـ)، وصنفه على طريقة ذكر القاعدة، وما يستثنى منها، ثم أدخل الألغاز فيها.

     10- نواظر النظائر، لابن المُلَقن، سراج الدين عمر بن علي، المعروف بابن الملقن الشافعي (المتوفى سنة 804هـ) وهو مختصر الأشباه والنظائر لابن السبكي.

     11- الأشباه والنظائر، للسيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي، (المتوفى سنة 911هـ) وهو من أحسن كتب القواعد، وأجمعها، وأفضلها، استفاد السيوطي ممن قبله، وبخاصة التاج السبكي والحافظ العلائي والزركشي، وأحال على السبكي والزركشي دون العلائي، وأضاف إلى ذلك خلاصة علمه ودرايته في الفقه والأصول والعربية، ورتبه على سبعة كتب، أهمها الأول في شرح القواعد الخمس، والثاني في قواعد كلية يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية، والثالث في القواعد المختلف فيها. وقال السيوطي: «أول من فتح هذا الباب شيخ الإسلام ابن عبد السلام في (قواعده الكبرى)، فتبعه الزركشي في (القواعد) وابن الوكيل في (أشباهه) وقد قصد ابن السبكي بكتابه تحرير كتاب ابن الوكيل، وذلك بإشارة والده».

     12- الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية والضوابط والقواعد الكلية  للسقاف، السيد علوي بن أحمد السقاف، ثم اختصره المؤلف في كتابه (مختصر الفوائد المكية).

مسألة نسخ القرآن بالسنة:

     هذه المسألةَ اختلفَ فيها أهل العلم على قولينِ خُلاصتُهَا ما يلي:

     القول الأول: عدم جوازِ نسخِ القرآنِ بالسنّةِ، وبه قال الثوريُّ والشافعيُّ وأحمدُ في روايةٍ وطائفةٌ مِن أصحابِ الإمام مالكٍ.

     قال الإمام الشافعيُّ: «وأبانَ الله لهم أنّه إنّمَا نسخَ ما نسخَ مِن الكتابِ بالكتابِ، وأنّ السنّةَ لا ناسخة للكتابِ وإنّمَا هي تَبَعٌ للكتابِ».

     وسُئِلَ الإمام أحـمد: تنسخُ السنّةُ شيئًا مِن القرآنِ؟ قـال: «لا يُنْسَخُ القرآنُ إلاّ بالقرآنِ».

     ورجَّحَ هذا القولَ ابنُ قدامةَ، وابنُ تيميةَ.

وأشهر أدلّتهم ما يلي:

     1 قول الله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا (البقرة: من الآية 106) والسنّةُ لا تساوي القرآنَ ولا تكونُ خيرًا مِنه.

     2 قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَالله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ  قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ (النحل: 101-102).

     3 احْتَجَّ بعضهم بحديث جابرٍ  أنّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- قال: [كَلامِي لا يَنْسَخُ كَلامَ الله، وكَلامُ الله يَنْسَخُ كَلامِي، وكَلامُ الله يَنْسَخُ بَعْضُهُ بَعْضَه].

     وهذا الحديثُ لو صَحَّ لكانَ قاطعًا للنزاعِ لكن لَمْ يَصِحَّ . بل حُكِمَ عليه بالوضْعِ.

     القول الثاني: جواز نسخِه، وهو رأيُ أبي حنيفةَ ومالك وأكثر أصحابه ورواية عن الإمام أحمد وهو قولُ الأكثر، ورجّحه الشنقيطيّ.

     ودليلهم أنّ الكُلَّ مِن عند الله، والناسخُ حقيقةً هو الله - جل وعلا- على لسانِ رسوله –صلى الله عليه وسلم- بِوَحْيٍ غيرِ نَظْمِ القرآنِ.

     وبَسْطُ هذه المسألةِ بِذكْرِ أدلّةِ كُلِّ قولٍ وجواب كُلِّ فريقٍ عن أدلّةِ الآخر يَطُولُ وليس هذا مقامه، وسواء قُلنَا بالجوازِ أو بالمنعِ مِنه؛ فإنّ هذه المسألةَ لا وجودَ لها أصلاً، فلَمْ يَرِدْ نَصٌّ مِن السنّةِ نسخَ نَصًّا مِن القرآنِ، والذينَ قالوا بالجوازِ لَمْ يذكرُوا مثالاً صحيحًا يؤيّدُ ما قالوه، وما ذكرُوه مِن الأمثلةِِ - وهو قليلٌ جدًّا غيرُ مسلّمٍ لهم، إذْ هو مِن قَبِيلِ البيانِ أو التخصيصِ، لا مِن قَبِيلِ النسخِ. أو هو مَنسوخٌ بآياتٍ أخرى مِن القرآنِ يعضدها ما ذكرُوه مِن السنّةِ.

     قال الزركشيُّ : «كُلُّ ما في القرآنِ مِمّا يُدَّعَى نَسْخُه بالسنّةِ عند مَن يراه فهو بيانٌ لحكمِ القرآنِ».

     وقال أبو الوفاءِ بن عقيل: «واختلفَ القائلونَ بذلك والمانعونَ مِنه هل وُجِدَ ذلك؟ فقال قومٌ: لَمْ يُوجد ذلك، وإليه ذهب شيخنا الإمام أبو يعلى، وابن سريج مِن أصحابِ الشافعيّ، وقومٌ مِن المتكلّمين».

     وقال شيخُ الإسلام ابن تيمية: «وبالجملةِ فلَمْ يثبت أنّ شيئًا مِن القرآنِ نُسِخَ بِسُنَّةٍ بلا قرآنٍ».

     وقال الزرقانيّ بعد أنْ ذكر أمثلةَ القائلينَ بِنَسْخِ القرآنِ بالسنّةِ وأجاب عنها: «ومِن هذا العرْضِ يخلص لنا أنّ نسخَ القرآنِ بالسنّةِ لا مانعَ يمنعهُ عقلاً ولا شرْعًا، غايةُ الأمرِ أنّه لَمْ يقعْ لعدمِ سلامةِ أدلّةِ الوقوعِ كما رأيت».

     وقال البعليُّ في الاختيارات الفقهيّة: «جميعُ ما يُدَّعَى مِن السنّةِ أنّه ناسـخٌ للقرآنِ غَلَط».

     وإذا تقرَّرَ هذا فإنّ الخلافَ في هذه المسألةِ خلافٌ لا يترتّبُ عليه أثرٌ كبير، والخَطْبُ فيه يسير. والله اعلم.

*  *  *

المراجع:

       القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، د. محمد مصطفى الزحيلي، دار الفكر دمشق، الطبعة الأولى، 1427هـ - 2006م.

       طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة، تحقيق: د. الحافظ عبد العليم خان، عالم الكتب بيروت، الأولى، 1407 هـ.

       فتح المعين بشرح قرة العين بمهمات الدين، زين الدين المليباري الهندي (المتوفى: 987هـ)، دار بن حزم، الطبعة الأولى.

       روضة الطالبين، المكتب الإسلامي، بيروت- دمشق- عمان، الطبعة الثالثة، 1412هـ / 1991م.

       الشافعي آراؤه وفقهه، أبو زهره: دار الفكر العربي، الطبعة الثانية، 1948م.

       تحفة المحتاج في شرح المنهاج، ابن حجر الهيثمي، عام النشر: 1357هـ - 1983م، دار إحياء التراث العربي بيروت.

       الوافي بالوفيات صلاح الدين خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي (المتوفى: 764هـ)، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دارإحياء التراث بيروت، 1420هـ- 2000م.

       قواعد التحديث للقاسمي، دار الكتب العلمية - بيروت- لبنان.

       المجموع شرح المهذب: النووي ، موقع يعسوب، دار الفكر.

       المدخل إلى دراسة المذاهب الفقهية، علي جمعة ، دار السلام القاهرة، الطبعة الثانية - 1422هـ - 2001 م.

       حاشية البجيرمي على الخطيب، سليمان البجيرمي (المتوفى: 1221هـ) موقع الإسلام.

***

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ذوالقعدة 1436 هـ = أغسطس – سبتمبر 2015م ، العدد : 11 ، السنة : 39

 



(*)  الباحث في قسم الديانة السنية بالجامعة الإسلامية علي كره، الهند.